الفساد باق ويتمدد في العراق
النظر في قضية كالفساد في بلد مثل العراق لا يحتاج إلى التدقيق في تقارير المؤسسات الدولية، كمنظّمة الشفافية الدولية مثلاً. الدلالات على تراكمات الفساد جلية في شوارع بغداد أو بين المحافظات الوسطى والجنوبية،وحتّى الشمالية (كردستان العراق). فالطرقات الخربة في مدخل العاصمة بغداد تنتشر فيها حواجز أمنية غير منظَّمة، رغم الحديث عن تخصيص ملايين الدولارات لِتأهليها! وإذا تجوّلت بين مناطق بغداد ستجد بنايات شاهقة تحمل عناوين مشاريع استثمارية، لكن لو جرى التدقيق في الجهات المالكة لها ستجدها تابعة إمّا لأحزاب السلطة أو لمافيات قريبة مِن القوى السلطوية أو لِشخصيات يمكن وصفها بالمافيات الصاعدة، أو لطبقات رجال الأعمال الطفيلية التي صعدت إلى مصاف رجال الأعمال بسبب علاقتها المشبوهة بقوى النفوذ السياسي.يشخص الصحفي الأمريكي Robert F. Worth في مقاله الاستقصائي داخل نظام حكم اللصوص البيروقراطي في العراق ملامحَ الفساد السياسي بعيون غير العراقيين، حيث يقول “بالنسبة لِغير العراقيين، قد تبدو الحياة السياسية العراقية مثل حرب العصابات، لكنّها في معظم الأوقات تتم تحت غطاء هذا الصراع سرقات بمنتهى الهدوء”.
يصنَّفُ العراق في مؤشر مدركات الفساد العالمي ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حيث احتلّ المرتبة 157 في التقرير الصادر عن منظّمة الشفافية الدولية عام 2021. الفساد في العراق يعكس صراعاً على تقاسم الاقتصاد الريعي بين الفرقاء السياسيين وقوى السلطة والنفوذ، وبهذا أصبح عبارةً عن شبكات عنكبوتية، فهو لا يقف عند حدود شخصيات ذي مناصب عليا في الدولة، وإنما يمتدّ ليشمل مافيات سياسية، وشخصيات خارجة عن التوصيف السياسي والطبقات الاجتماعية، تعمل على وفق علاقات شخصية مع شخصيات حكومية أو حزبية متنفّذه، أو أنها تعمل بعناوين “مكاتب اقتصادية” تابعة لأحزاب سياسية أو مليشيات مسلّحة. وتصف ممثلة بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) جينين هينيس-بلاسخارت ، الفساد في العراق بأنه “سبب جذري رئيسي في الاختلال الوظيفي في العراق، وبصراحة، لا يمكن لزعيم أن يدعي أنه محصن منه”.
وبات لِلفساد أوجه عدّة، منها الفساد الذي يتم على وفق صفقات سريّة غير معلَنة، تجري من خلال بيع وشراء المناصب السياسية والإدارية والمالية والأمنية العليا في مؤسسات الدولة، ومظاهر هذا الفساد تتجلّى في وصول شخصيات معيّنة لمناصب محددة رغم عدم امتلاكها الكفاءة الإدارية أو التدرج الوظيفي في العمل المؤسساتي، أو حتّى المؤهل العلمي الذي يؤهلها لِلمنصب القيادي.
أمّا الوجه الآخر، ويتم تشخيصه من قبل المؤسسات الرقابية: هيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، ولجنة النزاهة في البرلمان العراقي، وحتّى مكتب المفتش العام الذي ألغي في 2019؛ ومن قبل جميع الحكومات المتعاقبة بعد 2003، التي دائماً ترفع شعار محاربة الفساد، لكنّه يبقى شعاراً لِلاستهلاك الإعلامي. فجميع الحكومات متورطة بصفقات الفساد وبهدر المال العام، ولا يوجد أيّ استثناء! ومعاركها المعلَنة ضدّ الفساد تشبه إلى حدّ كبير معارك (دون كيشوت) ضدّ طواحين الهواء، فالحكومة السابقة شكَّلت مجلساً أعلى لمكافحة الفساد، وتحدَّث رئيسُ وزرائها الاسبق عادل عبد المهدي أمام مجلس النوّاب عن 40 مَوطناً لِلفساد، لكنّه خرج في لقاء تلفزيوني لاحق ليقول انه “لا أدلّة على الفساد لِنقدّمها لمجلس مكافحة الفساد”. علي علاوي ، وزير المالية في حكومة الكاظمي، يعترف في استقالته من المنصب، بأنَّ الحكومةَ “لم تنجح في ضبط الفساد ثم الحدّ منه. الفساد وحشٌ متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذوراً عميقةً في البلاد. ولا يمكن السيطرة عليه فضلاً عن اقتلاع جذوره، إذا لم تكن هناك إرادة سياسية وإجماع على القيام بذلك، إذ لا يزال الفساد مستشرياً ومنهكاً وواسع الانتشار”. علاوي، وعلى مدى السنتَين في منصب وزارة المالية، لم تظهر لتنظيراته في محاربة الفساد أيّ أثر على أرض الواقع.
إحسان عبد الجبّار وزير النفط، ووزير المالية بالوكالة، يؤكّد في مقابلة مع القناة العراقية الفضائية إن هناك ما لا يقل عن 800 مليون دولار سحبت مِن مصرف الرافدين في وزارة المالية بشكل غير قانوني! وأن هذه المبالغ التي اختفت تعود إلى ايرادات هيئة الضريبة العام. وبعد التحقيق في هذا الموضوع تم الكشف على سرقة 2 مليار ونصف دولار مجموع مبالغ التي تم سرقتها من الأموال المودعة في خزينة دائرة الضرائب العامة، لتوصف وسائل الإعلام العراقية عملية الفساد هذه بـسرقة القرن.
الأعم الأغلب من مظاهر الفساد في العراق يتم إضفاء الشرعية القانونية عليها، فمزاد العملة الذي هو أحد أهم وأخطر واجهات الفساد، يتم وفق إطار مؤسساتي يتم إدارته من قبل مؤسسة البنك المركزي العراقي، الذي يفترض أن يكون مستقلاً عن السلة التنفيذية ويخضع لرقابة السلطة التشريعية، على اعتبار أن البنك المركزي يحوّل مبالغ عائدات النفط العراقي إلى العملة العراقية من خلال مزاد العملة هذا! لكنّ المشكلة الحقيقية وشبهات الفساد تكون بالآليات، والتعاملات المصرفية التي تتم من خلالها إدارة مزاد العملة، الذي حتّى تسميته بالمزاد هي غير واقعية ولا تنطبق عليه! يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة الدكتور نبيل المرسومي بأنَّ “مبيعات البنك المركزي تستنزف 57% من العائدات النفطية، وهذا نموذج على بقاء العراق أسيراً لِلفساد واللادولة”.
أصبح الفساد في العراق الرئة التي تتنفس منها الطبقةُ السياسية الحاكمة في العراق، وهو بمثابة جهاز التنفس الاصطناعي الذي يُبقي هذا النظام السياسي الفاشل على قيد الحياة؛ لأنَّ مِن دون الاتفاق على تقاسم موارد الدولة لا يوجد ما يمكن أن يتفق عليه الفرقاءُ السياسيون. إذ يبدو أن الفساد تغوَّلَ على الدولة وأصبح هو الوجه الآخر لجماعات الدولة الموازية التي تفرض نفسَها بقوّة السلاح والنفوذ السياسي والفساد المالي والإداري. ولكنَّ خطورة الفساد في العراق أنّه لم يعد يقتصر على مظاهر الفساد السياسي والمالي والإداري، وإنّما هناك تقبّل اجتماعي وثقافي لِلفاسدين وتقبلهم باعتبارهم شخصيات عامة.