عمر العبيدلي وكامرون ميرزا
فرض تراجع أسعار النفط على الدول الخليجية مراجعة رؤاها الاقتصادية – أو إطلاقها في حالة السعودية – مما يخلق دوراً ربما مهماً للاستشاريين. فحسب دراسة لـ «جلوبل ريسيرش»، نمت سوق الخدمات الاستشارية في السعودية بنسبة 14.8% في عام 2015، إذ بلغ حجمها 1.25 مليار دولار، وأصبحت السوق السعودية تمثل تقريباً نصف السوق المتينة لدى الدول الخليجية، التي نمت بنسبة 9.4%. كيف يمكن لدول مجلس التعاون أن تستفيد إلى أكثر حد من الخدمات الاستشارية التي يعرضها الخبراء؟
أدرك الباحثون الذين يدرسون سوق الخدمات الاستشارية أنه في الغالب، يتمثل دور الاستشاريين في دعم الأفكار التي يتوصل إليها المدراء عضوياً، بدلاً عن تقديم أفكار يبتكرها الاستشاريون. فإن إجراء التغييرات في المنظمات الكبيرة عملية معقّدة، حيث تنعكس الإصلاحات إيجابياً على بعض المنتسبين، وسلبياً على غيرهم، مما يدفع الخاسرين لمقاومة التغييرات.
ويتوقع كبار المدراء مثل ردة الفعل هذه؛ ولذا يستعينون بالاستشاريين عموماً لطرح الإصلاحات نفسها، ولكن مغلّفة بخبرة من خارج المنظمة؛ كوسيلة لتشكيل الدعم الداخلي اللازم لتطبيق تلك التغييرات. وهذا هو سبب حرص الشركات الاستشارية على إبراز المؤهلات اللامعة، كشهادات الماجستير في إدارة الأعمال (MBA) والدكتوراه من أفضل الجامعات العالمية، إذ يعزز ذلك مصداقية توصيات الاستشاريين، كما أنه يطمئن كبار المسؤولين حينما يبحثون عن وسائل لإدارة المخاطر.
وليست هذه الخدمات الاستشارية هي ما تحتاجه دول مجلس التعاون في الوقت الراهن. ففي وقت التعاقد مع الشركات الاستشارية الكبرى، ينبغي على الدول الخليجية أن توضح أنها بحاجة إلى مقترحات فعلاً جديدة، ودعم في تطبيق تلك المقترحات؛ لأن الدول الخليجية تواجه تحديات فعلاً جديدة. فيتميز معظم الاستشاريين بقدرتيْ تبرير مشروع مرغوب فيه، وطرح مشروع جديد، ولكن يتوجب على العميل أن يشير إلى الخدمة التي تناسب احتياجاته.
فليست دول مجلس التعاون أول دول تواجه تراجعاً مستداماً في الإيرادات المبنية على الموارد الطبيعية؛ ولكنها تتصف بأسواق عمل مميزة جداً، حيث يمثل الوافدون ما يقرب من 85% من القوة العاملة، مما يخلق حاجة لتكييف وتطوير الحلول التقليدية.
وعلى سبيل المثال، وجود أعداد كبيرة من الوافدين ذوي المهارات الرفيعة يقدّم فرصة كبيرة وغير طبيعية لنقل المعرفة بشكل مستعجل. فيطرح الاستشاريون العاملون في دول مجلس التعاون عموماً أفكاراً تعزز انتقال المعرفة من الوافدين إلى المواطنين، ولكن مثل هذه المشاريع لم تحقق إلّا نجاحات محدودة. ومن بين الأسباب المؤدية لذلك: الوظائف الحكومية المريحة الآمنة التي يتمتع بها العديد من الخليجيين تقلّل من حوافز تطوير رأس المال البشري. ولكن في ظل تراجع أسعار النفط، تحرص الحكومات الخليجية على خفض التوظيف في القطاع العام، وقد يوفّر ذلك للاستشاريين بيئة أكثر تقبّلاً لأنظمة نقل المعرفة.
وفي الوقت الراهن في دول مجلس التعاون، تقدَّم فرص غير مسبوقة للاستشاريين لاستعراض مهاراتهم، إذ يحرص العالم كله على متابعة الرؤى الاقتصادية الخليجية، وفي حالة نجاحها، ستتلقى سمعة الاستشاريين، ومبيعاتهم المستقبلية، دفعة كبيرة. ولذا تركّز الشركات الاستشارية حالياً على اختراق الأسواق الخليجية، لاسيما السوق السعودية، حيث تتوقع الشركات أن القوات العاملة المحلية ستواجه بعض الصعوبات في تنفيذ الخطط الطموحة، إن لم يحصلوا على دعم الاستشاريين الخبراء.
ولكن هل يكفي ذلك لضمان جودة التوصيات الواردة؟ فمن المنطقي أن يتم تعويض الاستشاريين جزئياً بناءً على نظام يربط المكافأة بالأداء الظاهر: في حالة تبني العملاء اقتراحات الاستشاريين، وبروز نتائج إيجابية، فتزداد مكافأة الاستشاري.
ولكن تطبيق المحاسبة في بيئات العمل الاستشاري أمر معقّد، ففي العديد من الحالات، يصعب التمييز بين الاقتراحات غير الفعّالة – التي يتحمل مسؤوليتها الاستشاري – وعدم تبني الاقتراحات الفعّالة، الذي يعتبَر خطأ العميل.
واحياناً يزداد حجم هذه المشكلة حينما يطلب العميل من الاستشاري التركيز على تفاصيل هامشية؛ بدلاً عن الثغرات الأساسية في المنظمة؛ بالإضافة إلى عدم تزويد الاستشاريين بالمعلومات التي يحتاجونها لصياغة حلول فعّالة. وقد تكون مثل هذه العوائق غير مقصودة من قبل العميل، كما أنها قد تعكس أحياناً تعمّداً في التعجيز من قبل منتسبي المنظمة الذين تهددهم الإصلاحات المطروحة.
وتعتبَر مواجهة المشاكل الداخلية لمنظمة العميل مشكلة شائعة عند الاستشاريين العالميين، ولكن الاستشاريين العاملين في دول مجلس التعاون يواجهون تحدّياً إضافياً، يتمثل في تكييف التوصيات؛ لكي تتواءم مع ثقافة وبيئة العمل المحلية، التي تجعل العديد من الحلول الاستشارية التقليدية غير فعالة، أو ربما ذات أثر عكسي، عند تطبيقها في الدول الخليجية.
وعلى سبيل المثال، يهتم الخليجيون بشكل أساسي بالثقة المضمرة في العلاقات، التي تظهر بعد التأقلم مع الآخرين على مدى الزمن. وعادةً، يخطئ الاستشاريون الغربيون حين اعتبار هذه الظاهرة أفضلية غير عادلة للأقارب (nepotism). ولكن هي بالفعل مظهراً لقضية أوسع، وهي العلاقة المعقدة بين النسب القبلي، والعمل، والحياة اليومية؛ إذ تقوم شبكة أصدقاء ومعارف الخليجي – بالأساس – على عائلته الموسّعة. بالتالي، حينما يوصي الخبراء الأجانب بآليات توظيف تقلل من دور العلاقات الشخصية بين منتسبي المنظمة والمتقدم للعمل، قد يتسبب ذلك – دون قصد – في تراجع إنتاجية المنظمة؛ لأن الثقة المضمرة لها دور محوري في فعالية المنظمات.
إذاً سيعود أكبر مردود للاستشاريين الأجانب الذين يفقهون كيفية تكييف مبادئ العمل التقليدية الأفضل (traditional best practices) لكي تتواءم مع البيئة الفريدة لدى دول مجلس التعاون، وللاستشاريين الذين يقومون بذلك عبر التفاعل والتعاون مع الخبرات المتوفرة محلياً، اعترافاً بحاجتهم لتلك الخبرات، وخضوعاً إلى ما قاله الأديب الأمريكي، إرنيست همينجوي: “نحن كلنا متدربون في حرفة لن يتقنها أحد أبداً”.
عمر العبيدلي (@omareconomics) مدير برنامج الدراسات الدولية والجيو-سياسية في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، وأستاذ اقتصاد مشترك منتسب في جامعة جورج ميسون، وباحث أول منتسب في مركز مركيتس.
كامرون ميرزا (@cmirza1) استشاري في مكتب رئيس جامعة البحرين، لديه خبرة دولية كبيرة في قيادة إصلاحات القطاعات العامة في المملكة المتحدة والشرق الأوسط، تشمل خبرته العمل في وحدة الأداء لرئيس الوزراء في الفترة 2007-2010 تحت توني بلير وجوردون براون، حيث ركز على إصلاح نظام التعليم.