أزهر الربيعي
يقوم مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، بالعمل على دراسة بحثية جديدة تبحث بعمق تغييرات المياه السطحية في حوضي دجلة والفرات منذ عام 1984 وحتى عام 2015، وتأثير تلك التغييرات على حجم المياه في البلاد وانخفاض مستواها نتيجة إنشاء عدد من المشاريع والسدود في مناطق منبع النهرين في تركيا.
سترصد هذه الدراسة الفترات الزمنية للتغيرات في سطح المياه ورسم خارطة توضح تأثير تلك بناء السدود، كما ستلقي الدراسة الضوء على انخفاض التدفقات المائية في حوضي دجلة والفرات وآثارها الواضحة على قطاعات حيوية حساسة مثل قطاع الزراعة، سيما في مناطق أهوار بلاد ما بين النهرين. وقد تسببت قلة الإطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات إلى موت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية ونفوق عدد كبير من الحيوانات وتهديد قسم منها بخطر الانقراض، فيما تواجه مساحات شائعة مشكلة التصحر في مناطق زراعية، مما أدى إلى هجرة المزارعين ومربي الحيوانات إلى المدينة أو مناطق أخرى بحثاً عن مصادر أخرى للمياه.
يتألف الفريق البحثي للمشروع كل من الباحث الرئيسي الدكتور مايكل مايسون من مركز الشرق الأوسط في كليّة لندن للاقتصاد والعلوم السياسة، ومن العراق كل من المستشار الدكتور نوري ناصر والباحث أزهر الربيعي، فيما يعمل الباحث في مركز الشرق الأوسط، الدكتور أردا بيلجن على الجانب المتعلق بتركيا في هذه الدراسة.
“بلاد النهرين” بلا ماء
عُرف العراق قديماً باسم بلاد الرافدين أو “بلاد ما بين النهرين”، في إشارة إلى وجود نهري دجلة والفرات اللذان ينبعان من الجهة الشرقية لتركيا، ويدخلان العراق من جهة شمال العراق (نهر دجلة) ومن جهة سوريا (نهر الفرات)، ثم يلتقيان من جديد ليكونا نهر شط العرب في محافظة البصرة جنوب العراق، حيث يصب الأخير في الخليج العربي. لكن ثمة خطر يهدد وجود النهرين، كما يرى مختصون، في السنوات القادمة بسبب عدم الاستخدام العادل للمياه من قبل دول المنبع واتباع سياسات مائية لا تراعي مشاركة الحصة المائية مع العراق من قبل الجانب التركي والإيراني، حيث عمدت إيران إلى قطع روافد وأنهار كانت تصب في العراق وتشكل نسبة كبيرة من المياه الواصلة إلى الأنهار العراقية.
في السنوات القريبة الماضية، عانت منطقة الاهوار العراقية من جفاف قاس أدى لهجرة ساكني تلك المناطق بحثاً عن المياه في مناطق أخرى، حيث تشكل المياه مصدر رئيسياً لحياتهم اليومية، إذ يعتمد غالبية الأهالي على المياه للاستخدام اليومي لهم ولحيواناتهم، إضافة إلى أن مياه الاهوار تسهم في تشكيل مصدر دخلهم من خلال صيد الأسماك والزراعة. فيما قلت اعداد النخيل في بساتين جنوب العراق بسبب تأثرها بقلة المياه الواصلة إلى نهر شط العرب في البصرة بعدما قامت إيران بقطع نهر الكارون الذي يصب في شط العرب، دون النظر لمصالح العراق، و بالتالي تأثرت الأراضي الزراعية التي تستمد مياهها من شط العرب، بعدما ارتفعت معدل الملوحة في المياه وقلتها نتيجة قطع مجرى نهر الكارون بإتجاه شط العرب.
ما تأثير السدود التركيّة والإيرانية؟
منذ عقود من الزمن، عمدت كل من تركيا وإيران، إلى إنشاء سدود عملاقة في أراضيها لحجب المياه الواصلة إلى العراق، ففي تركيا، شيدت تركيا مشروع جنوب الاناضول GAP الواقع في المنطقة الجنوبية الشرقية لتركيا، ويضم هذا المشروع ما يقرب عن 22 سداً و19 محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في تسع محافظات تركية. ويعد سد إليسو من أهم السدود التي شيدته تركيا، حيث يعمل هذا السد على تحويل جميع المياه المخزونة في حوض دجلة إلى تركيا قبل دخوله الأراضي العراقية الواقعة قرب الحدود الدولية المشتركة.
ويعتبر سد إليسو التركي أكبر مشروع مائي بعد سد أتاتورك، حيث يقع على بعد 65 كيلو متر من الحدود السورية العراقية. ومع قيام تركيا بمراحل ملئ السد بالمياه، يزداد الخطر على مستقبل المياه في العراق وتولد انعكاسات خطيرة على البلاد في شتى القطاعات، منها القطاعات الزراعية، فإن حجب تركيا للمياه يؤدي إلى تحول الأراضي الزراعية المقامة على ضفاف نهر دجلة إلى أراضي قاحلة وتوقف عدد من المشاريع الصناعية ومشاريع توليد الطاقة الكهرومائية بسبب تأثر تلك المشاريع الواقعة على نهر دجلة، ومنها محطتي سد الموصل وسد سامراء، فيما وصلت تلك التأثيرات إلى مناطق جنوب العراق، وخصوصاً منطقة الاهوار.
أما إيران، فقد عمدت أيضاً إلى بناء سدود من أجل تقليل تدفق أنهارها العابرة للحدود باتجاه دولة المصب، العراق. و من أهم أنهار المنبع هي أنهار ديالى وأرفاند والزاب الكبير والصغير. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية التي سعى العراق من خلالها مع تركيا وإيران من أجل المشاركة العادلة الحصص المائية ألا أن كلتا الدولتين لم تستجيبا إلى طلب العراق.
وقد تأثرت المدن العراقية نتيجة قيام كل من تركيا وإيران بإنشاء السدود وقطع الأنهر أو تحييد مسارها إلى موت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في عدد من المدن العراقية، ومنها محافظة ديالى المرتبطة حدودياً مع إيران، فكانت الأكثر تضرراً ما دفع وزارة الزراعة العراقية إلى استثناء ديالى من الخطة الزراعية، نتيجة انخفاض مناسيب المياه في نهر ديالى إلى أكثر من 90%. ومن الجدير بالذكر أن إيران قامت بقطع أكثر من 45 رافداً وجدولاً موسمياً كانت تغذي عدد من الأنهار والأهوار في العراق، أهمها أنهار الكرخة والكارون والطيب وألوند، وآخرها نهر هوشياري الذي يغذي محافظة السليمانية.
إدارة المياه العابرة للحدود
يقول رئيس الباحثين الدكتور مايكل مايسون في مقابلة أجراها كاتب المقال: “يواجه العراق تحديات خطيرة في تلبية احتياجاته المائية بسبب انخفاض التدفقات المائية من نهري دجلة والفرات بشكل رئيسي. وفي العراق الذي تظهر فيه تأثيرات التغيرات المناخية بشدة، فأن السبب الأكبر لانخفاض حجم المياه هو استخدام مياه المنبع من قبل تركيا وإيران، ما أدى إلى حدوث فجوة متزايدة في العراق ما بين توفر المياه والطلب عليه”. وحذر د.مايسون من آثار كارثية قد تحصل و من إمكانيه عدم توفر المياه لمستخدميها في المنازل والزراعة والاستخدامات الأخرى ما لم تتخذ الحكومة العراقية إجراءات لمعالجة المشكلة.
وبحسب د.مايسون، من خلال المشروع البحثي، سيتم رسم خرائط لتحليل التغيرات في المياه السطحية في حوضي دجلة والفرات منذ عام 1984، ومن خلال استخدام بيانات الاستشعار عن بعد، توضح مواضع الخسائر والمكاسب في وجود المياه السطحية، آملاً أن تسهم هذه الدراسة في مساعدة وزارة الموارد المائية في مفاوضاتها مع كل من تركيا وإيران، للتوصل إلى اتفاق بشكل عاجل بشأن استخدام أكثر إنصافاً ومعقولية للمياه العابرة للحدود.