عمر الجفّال وصفاء خلف
على مدار نحو أربعة عقود كانت البصرة مسرحاً لحروب حكومة العراق المركزية العبثيّة. أثّرت هذه الحروب التي خاضها العراق على دول الجوار، أو تلك التي شُنّت عليه من قوى خارجيّة، على البنى التحتيّة للمدينة ومصادر الغنى الاقتصادي. فحروب بغداد كانت بالغالب تدور رحاها المُدَمِّرة على أرض البصرة. شكّلت الحرب التي خاضتها الولايات المتحدّة الأميركية مع الدول المتحالفة معها على العراق عام 2003 وأسقطت بها نظام صدّام حسين على التركيبة السكّانية للمدينة، وإلى بروز مراجع عديدة أصبحت فاعلة داخل البصرة وتبدل واضح في اقتصادها وبيئتها.
واليوم تعدُّ البصرة، المحافظة التي تقع في أقصى جنوب العراق، إحدى أكثر الشواهد على فشل الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بعد نيسان/ أبريل عام 2003. المدينة متهالكة البنى التحتيّة، المجتمع يشهد أزمات حادّة من البطالة والأمراض ونقص الخدمات وارتفاع مستوى الأُميّة وانتشار المخدرات. العسكرة تسيطر على المدينة التي باتت خزّاناً بشريّاً للفصائل المسلحة.
وخلال الأعوام 2003 – 2009 خاضت البصرة، صراعاً عسكرياً مسلحاً بين الفصائل المسلحة والقوات البريطانية التي كانت تحتل المدينة، ومن ثم واجهت تلك الفصائل قوات الأمن العراقية في عملية “صولة الفرسان”، وعند بروز التنظيم الارهابي “داعش” باتت البصرة مركزاً هاماً لصناعة وتمويل وتدريب الفصائل المسلحة، فأغلب قادة “الحشد الشعبي” تعود أصولهم الى البصرة.
وسط جميع هذه الازمات المتفاقمة، تقع البصرة أيضاً تحت رحى صراع إقليمي شرس في المنطقة، ولاسيما بين الولايات المتحدة وإيران، فضلاً عن الجيوب الإقليمية الخليجية التي تريد الاستفادة من ذلك الصراع.
بالمقابل، فإن البصرة ما تزال المركز الأساسي لتمويل الموازنة العامّة في العراق. تعمل حقول النفط التي تبلغ نحو 15 حقلاً بفاعليّة عالية وتُنتج أكثر من 80 بالمئة من النفط الذي يصدّره العراق. لكن، ومن جانب آخر، تحصل البصرة على نحو 5 بالمئة فقط من أموال مواردها!
ولأن تكن البصرة مركزاً أساسياً لعمليات استخراج النفط، تعاني البيئة من تلوّث حاد، الأمر الذي يتسبّب بأمراض عديدة لدى السكّان، والمفارقة أن البصرة تعاني من نقص حاد في الخدمات الصحيّة!
وبالرغم أيضاً من أن البصرة بوابة العراق الوحيدة على الخليج، وتمتلك عدداً من الموانئ وتعمل فيها عدد من الشركات العالميّة، بيْدَ أنها تعاني من نسبة بطالة مرتفعة بين السكّان.
هذا الواقع يثير حنق سكّان البصرة الذين يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين نسمة. يخرج الآلاف منهم في احتجاجات في فصل الصيف إثر ارتفاع الحرارة إلى نصف درجة الغليان حين تغيب الطاقة الكهربائية، وتعاني بلدات عديدة فيها من نقص مياه الشرب أو تسممها وارتفاع مستوى الملوحة.
كان صيف عام 2018 مثالاً بارزاً على حنق سكّان البصرة على الأحزاب السياسيّة المنخرطة في إدارة الحكم والدول الداعمة لها، إثر ذلك، أحرق متظاهرون مقار لأحزاب وفصائل مسلّحة، فضلاً عن التعرّض للقنصليّة الإيرانية. وأغلق بعض المحتجين الطرق المؤدية إلى الموانئ وحقول النفط لوقف عجلة الاقتصاد، وردَّت الحكومة على ذلك بعنف ضد المتظاهرين واعتقلت العشرات وقتلت عدد من المتظاهرين، وزادت تلك الاحتجاجات من هيمنة الفصائل المسلحة حتّى أن القنصلية الأميركية في البصرة أغلقت أبوابها وأمرت موظفيها بالمغادرة.
وأظهرت الانتخابات البرلمانية التي جرت في 2018 تدنياً حادّاً في مشاركة سكّان البصرة في الاقتراع، وهو الأمر الذي عُدَّ يأساً وعدم إيمانٍ بالتغيير السياسي من خلال الانتخابات.
كل هذه الأحداث والتحوّلات، أنتجت سلوكاً مغايراً من قبل الفاعلين السياسيين والناشطين والمحتجين في البصرة. صار لكل جهة طرق جديدة في التعامل مع الواقع من أجل الوصول إلى تغيير في بنية الحكم المحلي. وتحفزت الجماعات التي تطالب بإعلان البصرة إقليماً مشابهاً لإقليم كردستان شمال العراق، أو إقليماً بصلاحيات أوسع بكثير مما يُهيئ للانفصال مستقبلاً.
عليه، فنحاول في بحثنا الذي نجريه الوصول إلى فهم أزمات البصرة والتطوّرات التي ستؤول إليها. نسعى في دراستنا إلى فهم هذه التحوّلات عبر لقاءات مع الفاعلين في البصرة وإجراء أبحاث ميدانية لرصد الرأي العام. وعلى العكس كل الدراسات التي تركّز بشكل هرمي على البصرة من خلال فحصها من منظار مركزي، أي من العاصمة السياسية في بغداد، فإننا نسعى إلى فهم البصرة محليّاً، من خلال الإدارات والمؤسسات المحليّة والمجتمع الأهلي والنشطاء وفهم تركيبة الأزمات التي تعصف بالمدينة، وصولاً إلى بناء صورة واقعية لما يمكن أن تؤول إليه المدينة مستقبلاً.
تجيء الدراسة في توقيت حسّاس ومفصلي عقب “انتفاضة” كبيرة لمواطني المدينة. وبعد عام من تلك الاحتجاجات لم تتحقق الكثير من المطالب والخدمات استنزفت أكثر، بل بات الوضع السياسي أكثر غموضاً مع الاستعداد لعقد انتخابات مجالس المحافظات لأوّل مرة منذ العام 2013، والكيفية التي سيتعامل بها السكان الغاضبون مع الانتخابات بوصفها طريقة سلمية من أجل التغيير.
تنطلق الدراسة بوصفها واحدة من الدراسات القليلة التي أُجريت على أرض الميدان في البصرة، وهي لا تعبِّر عن وجهة النظر المركزية بل عن الآراء المحلية للسكاّن ازاء مدينتهم ومستقبلها، لكنها ستستفيد بالتأكيد من الدراسات السابقة وتضعها بعين الاعتبار لقياس مؤشرات التحسن والتغييرات التي طرأت في خضم هذه الاحداث.
تستند الدراسة إلى اجراء مقابلات مباشرة مع عدد من مسؤولي الحكم المحلي والأمن والمجتمع الأهلي إضافة إلى النشطاء والفاعلين ومنظمي الاحتجاجات. ومن أجل فهم أعمق للمطالب ووجهات النظر التي يتبناها الشارع بعيداً عن المسؤولين والنشطاء، فإن الدراسة تتبع منهجية الاستبيان التي ستستهدف عينة عشوائية -مع مراعاة الخصوصية الجندرية- للوقوف عن قرب على أبرز المشكلات التي يعاني منها سكان البصرة.
عملياً، فإن البحث الميداني للدراسة سيجري في الموسم الأكثر سخونة في البصرة، أي فصل الصيف، مع اشتداد ارتفاع درجات الحرارة وتنامي حركة الاحتجاج على كافة المستويات، لذا فأن هذا التوقيت يُعدُّ الأمثل لرصد الرأي العام والوقوف على المشكلات بما يضمن تشكُّل صورة بحثيّة موضوعيّة.
الدراسة لا تهدف إلى صياغة تصورات نمطيّة عن الأوضاع في البصرة، ولا تبغي انتاج ورقة تقييم حالة، بل تسعى لتقديم صورة موضوعية عمّا يحصل هناك باستعراض غالبيّة المواقف والأطراف والتعرف على الآراء بالشكل الذي ينتج تصوراً عن مدينة ومجتمع شديديّ الخصوصية ويعانيان من هيمنة أطراف كثيرة وسط تفاقم المشكلات وغياب الحلول.
[This piece is available in English here.]