عمر العبيدلي
تشكّل دول مجلس التعاون هدفاً جذّاباً للمهاجرين المحتملين الآتين من الدول النامية؛ نتيجة لازدهارها الاقتصادي، الذي يشابه ما يوجد في الدول الغربية (تحديداً دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية «OECD»). ولكن على عكس الدول الغربية، تمنح أنظمة الهجرة الخليجية حقّ العمل للوافدين ذوي كل مستويات المهارات. ويعود ذلك إلى اعتماد القوات العاملة الخليجية على العمالة الوافدة (يمثّل الأجانب تقريباً 75% من القوة العاملة الخليجية)؛ بسبب مرور فترة محدودة منذ تأسيس الأنظمة التعليمية الخليجية، فضلاً عن سرعة النمو الاقتصادي في مجلس التعاون الذي يستدعي استيراد أيدٍ عاملة. ونتيجة لهذه الوقائع، فإنّ حصة الفرد للتحويلات المالية في دول مجلس التعاون تفوق ما يوجد في الدول الغربية بأضعاف؛ حيث إنّ في عام 2010، بلغت حصة الفرد للتحويلات المالية القطرية 3,200 دولار، مقارنة بـ 360 دولاراً في الولايات المتحدة. وإنّ التحويلات المباشرة اللامركزية أفضل من المساعدات المالية الحكومية، كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي في الدول النامية، وبالتالي فإنّ ارتفاع التحويلات الخليجية المالية يعكس الدور الإيجابي الذي تلعبه دول مجلس التعاون في رفع مستوى المعيشة في الدول الأخرى، عن طريق الهجرة للعمالة الوافدة.
ولكن يستغلّ مجرمو الهجرة ثغرات سياسة الانفتاح الخليجية نحو العمالة الوافدة، فيسعى المجرمون إلى مخادعة وافدين محتملين جهلاء؛ لإقناعهم بالانتقال إلى إحدى دول مجلس التعاون، أو ربما إجبارهم على ذلك. ويقومون بذلك عن طريق تزويدهم بمعلومات غير دقيقة عن طبيعة فرصة العمل والمكافأة المالية المتوقعة. وعلى سبيل المثال، قد تُعطى عاملة وافدة ما، الانطباع عن أنها ستعمل كسكرتيرة براتب شهري يبلغ 800 دولار، بينما عند وصولها إلى الخليج، تكتشف أنها ستعمل كخادمة منزلية براتب شهري يبلغ 300 دولار. ويحمّل المجرم الاستغلالي الوافد ديوناً كبيرة متعلّقة بكلف الهجرة؛ ممّا يجبر العامل على العمل في السوق السوداء في الخليج؛ لأجل تسديد الديون، ولجمع أموال لعائلته. ويشكّل ما سبق جزءاً ممّا يسمّى ظاهرة «العمالة السائبة».
يتضرر عديد من العناصر من ظاهرة العمالة السائبة. حينما يعمل عامل في السوق السوداء، يتنازل عن حقّه لحماية قانونية، ولخدمات طبية عامة، وقد يتعرض إلى خسائر مالية، ويتعب نفسياً وعاطفياً. والشركات والمستهلكون الذين يتعاملون مع السوق السوداء يضرون الشركات والمستهلكين الملتزمين بالقانون، وقد يتعرضون أيضاً إلى جودة منخفضة في الخدمات المعروضة في السوق السوداء. وبالإضافة إلى ذلك، تُهدر أموال الدولة في مكافحة الظاهرة، كما أنّ الحكومات تستغني عن الإيرادات الضريبية المتعلقة بالأنشطة القانونية.
وعلى الرغم من وجود هذه الظاهرة، فإنّ كثافة هجرة العمالة إلى دول مجلس التعاون تشير إلى أنّ أغلبية الوافدين يعتبرون العملية فرصة قيّمة، وأنّ مخادعات المجرمين الاستغلاليين تمثّل حالة محدودة الانتشار نسبياً. ولكن معالجة ظاهرة العمالة السائبة لاتزال تخدم مصلحة الدول الخليجية المباشرة، كما أنّها تعتبَر مساهمة بناءة في قضايا المجتمع الدولي.
وهناك تحدٍّ أساسيّ: في عديد من الحالات، لا يمكن الانتظار إلى وصول الوافد إلى الخليج للبدء في معالجة ظاهرة العمالة السائبة؛ لأنّه قد يكون الوافد اقترض قبل الوصول. وعلى الرغم من مواردها المحدودة، فإنّ دولة الفليبين طوّرت نظام رقابة للعمالة الوافدة الفلبينية أدّى إلى تراجع ملحوظ في حالات الاستغلال. ولم تتبنَ حكومات دول نامية أخرى – كباكستان وبنجلاديش – نظاماً مماثلاً بعد، ممّا يتيح فرص استغلال للمجرمين. ولا يمكن لدول مجلس التعاون القضاء على هذه الظاهرة دون التعاون مع الدول النامية إلّا إذا أغلقت حدودها بالكامل – وإن قامت بذلك، فسيتضرر كلّ الأطراف اقتصادياً، بشكل كبير، وأرقام التحويلات المالية المذكورة أعلاه تؤكّد ذلك.
وفي ظلّ ضعف البيئة القانونية في الدول النامية، فقد تنظر دول مجلس التعاون في تشغيل وكالات توظيف في الدول النامية، فضلاً عن عرض قروض للوافدين المحتملين؛ إذ يمكن أن تساهم هاتان السياستان في خفض نفوذ المجرمين الاستغلاليين.
مثلاً تتميز الإمارات بنظام قانوني رصين، وبموارد مالية متينة. إذاً إن شغّلت حكومتها مكتب توظيف في بنجلاديش، فقد تتمكن من مواجهة مشكلة المخادعة في مصدرها – فيمكن للحكومة الإماراتية أن تزوّد أيّ وافدٍ محتملٍ بمعلومات دقيقة عن فرصة العمل والراتب المعروضَين في الإمارات، قبل مرحلة الاقتراض؛ تفادياً لحالة استغلال أو ابتزاز. وقد تساهم حكومة الدولة النامية بشكل بنّاء في الوكالة لإبعاد المجرمين الاستغلاليين.
وقد تعرض الوكالة قروضاً على الوافدين المحتملين؛ لمساعدتهم على تفادي قروض المجرمين الاستغلاليين. وليس من الضروري أن تكون القروض مدعومة، بل قد تكون مربحة؛ لأنّ البديل المتاح عادة للوافد هو قرض استغلالي. ويمكن للحكومة الخليجية أن تحقّق معدّل تسديد مرتفعاً مقارنة بالمعدّلات المعتادة في السوق، عن طريق ربط التسديد بنزول راتب الوافد في حسابه الخاص شهرياً.
وهناك ثغرتان محتملتان لدول مجلس التعاون متعلّقتان بهذه الخطّة. أولاً، يُطرح أنّ الحكومة تدير الوكالة، وعادة الأداء الإداري لدى الأجهزة البيروقراطية العامة يقلّ عمّا يوجد في المؤسسات الخاصة المتعرّضة لتنافس الأسواق. ثانياً، يتطلّب المشروع رأسمالٍ ملحوظاً للتفعيل؛ وإن خطّطت الحكومات الخليجية لاستخدام هذه الوكالات، بشكل حصري، لإدارة تدفق العمالة الوافدة، فسيستدعي المشروع استثمارات كبيرة، لاسيما في دول ضخمة كالهند.
ولكن في كل من الثغرتين، يجب مقارنة الموارد المطلوبة بالموارد التي تُخصص حالياً لمعالجة سلبيات ظاهرة العمالة السائبة داخل حدود دول مجلس التعاون، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية التي تسبّبها الظاهرة، كالإيرادات الضريبية المفقودة، والتدهور في جودة الخدمات.
إذاً قد تنظر دول مجلس التعاون في إجراء تجربة، قائمة على وكالات توظيف تديرها الحكومات الخليجية في الدول النامية، تمدّ قروضاً للعمالة الوافدة، وتعمل بشكل موازٍ للأنظمة الخاصة القائمة حالياً. فستوفر التجربة معلومات مفيدة عن إيجابيات وسلبيات المشروع، تسمح بتعديلات قبل إطلاق عدد أكبر من المكاتب.
وفي الوقت الراهن، حينما تسعى إلى معالجة ظاهرة العمالة السائبة والقروض الاستغلالية، تفضّل بعض مؤسسات حقوق الإنسان أن تحثّ دول مجلس التعاون على تحمّل كلف الهجرة لدى العمالة الوافدة، عبر ضغط دولي. ومن المنطقي أن تعتبر دول مجلس التعاون هذه السياسة غير عادلة؛ نظراً للانفتاح الاقتصادي الفائق لدى دول مجلس التعاون، مقارنة بالدول الغربية، الذي يساهم بشكل ملحوظ في تنمية الدول النامية. وبالإضافة إلى عدم اعتراف أصحاب سياسة الضغط الاجتماعي بالدور الإيجابي للدول الخليجية في اقتصادات الدول النامية، فقد يكون للسياسة أثر عكسي، حيث إنها قد تحفّز دول مجلس التعاون على إغلاق حدودها وتقليل فرص العمل المتاحة للعمالة الوافدة. ويشابه ذلك ما يحصل في أمريكا حينما يُرفع الحدّ الأدنى للأجور، وتستبدل مطاعم الوجبات السريعة الأيدي العاملة البشرية بأجهزة ورجال آليّين؛ ممّا يضرب في مصلحة العمّال ذوي الأجور المتدنية.
خلاصة القول، هناك توجّه بين الحكومات الغربية، والباحثين، والنشطاء؛ لمطالبة الدول الخليجية بمعالجة مشكلتي الإجرام في الهجرة والقروض الاستغلالية، حصرياً عن طريق إجراءات خليجية داخلية. ويعود هذا التوجه الفكري إلى الثروات التي تتميز بها الدول الخليجية، فضلاً عن بروز بعض سلبيات ظاهرة العمالة السائبة في داخل الدول الخليجية، بشكل مرئي وملموس. ولا يأخذ هذا التفكير في عين الاعتبار قلّة فعالية سياسات خليجية داخلية، مقارنة بفعالية سياسات تستهدف المجرمين في الدول النامية، كما أنه لا يأخذ هذا التفكير في الاعتبار احتمال إغلاق دول مجلس التعاون لحدودها أمام العمالة الوافدة، الذي سيشكّل ضرراً أكبر للعمالة الوافدة. ويفضَّل أن يتمّ تخصيص الموارد والجهود الدولية لمعالجة الإجرام في الدول النامية، ولإقناع حكومات الدول النامية على تبنّي النموذج الفلبيني. وقد تساهم دول مجلس التعاون بشكل بنّاء وفعّال عن طريق إنشاء وكالات توظيف في الدول النامية، وعرض قروض على العمالة الوافدة. ونظرياً، فإنّ الفئة الوحيدة التي ستتضرّر من هذه السياسات هي فئة الوسطاء الاستغلاليين الذين حوّلوا الهجرة إلى عملية مليئة بالمخاطر.
عمر العبيدلي مدير برنامج الدراسات الدولية والجيو-استراتيجية في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، وأستاذ مشارك منتسب في الاقتصاد في جامعة جيورج مسيون، وباحث أول منتسب في مركز مركيتس. وعمل العبيدلي سابقاً كعضو في المجلس الاستشاري المشترك للاقتصاديين لولاية فرجينيا، وكأستاذ زائر في الاقتصاد في جامعة تشيكاغو.